غزة... فرحة النجاح المغمّسة بالوجع

 كتب اسماعيل الريماوي: بعد عامين من الصمت والانقطاع والدمار، عادت غزة لتعيش لحظةً طال انتظارها، لحظة إعلان نتائج الثانوية العامة، لكن الفرح هذه المرة لم يأتِ صافياً كما كان في الماضي، بل جاء مجروحًا، مكسورا، يحمل بين طيّاته رائحة الفقد ووجع الغياب، إنها فرحة مغمّسة بالدم، ومطرّزة بأسماء الشهداء الذين رحلوا قبل أن يقطفوا ثمار أحلامهم.

في شوارع غزة، لم تُعلّق الزينة كما كانت من قبل، ولم تخرج مواكب الفرح تزف الناجحين بالأهازيج والزغاريد، بل خرجت الدموع تسبق الأصوات، وارتجفت القلوب بين وجع الأمس وفرح اليوم.
نجح من بقي، وغاب من كانوا يستحقون أن يكونوا هنا، بين كل بيتٍ يحتفل، بيتٌ آخر يكتفي بصورةٍ مؤطرة لشهيدٍ كان ينتظر نتيجته، أو لفتاةٍ حلمت أن تلبس الثوب الجامعي ولم يمهلها القصف أن تكبر.
في غزة، النجاح لا يعني فقط تجاوز امتحان، بل تجاوز حرب، وتحدّي موتٍ يحيط بكل شيء، هو إعلان انتصار صغير في وجه الإبادة، ودليل على أن الإرادة لا تُقصف، وأن العقل الفلسطيني لا يموت حتى لو سقط الجسد.
كل شهادة نجاح هنا هي شهادة حياة، شهادة على أن الفلسطيني ما زال يكتب اسمه بالضوء رغم ظلام العالم، وما زال يصرّ على أن يزرع أملاً في أرضٍ تتنفس الحصار.
في لحظات إعلان النتائج، اختلطت المشاعر في قلوب الناس، دموع الفرح والنجاح سكنت المآقي، لكن خلفها غصّة لا تزول، كل طالبٍ تذكّر زميله الذي رحل، وكل أمٍ فرحت بابنها وهي تنظر إلى صورة ابنٍ آخر لن يعود.
غزة كلها بدت وكأنها تحتفل وتبكي في الوقت نفسه، مدينةٌ معلّقة بين الحياة والموت، بين الفرح والحسرة، بين النجاح والفقدان.
الصور التي ملأت مواقع التواصل لم تكن كغيرها من الأعوام؛ طلاب يحملون شهاداتهم أمام بيوتٍ مهدّمة، وأمهات يرفعن صور أبنائهن الشهداء بجانب شهاداتهم، وطلابٌ يقفون على أنقاض مدارسهم يبتسمون رغم الخراب، تلك الابتسامات الصغيرة كانت أعظم من كل كلمات التهنئة، لأنها تقول للعالم إن هذا الشعب لا يُهزم، وإنه ما زال يكتب قصته بالحبر والدم والكرامة.
قد تبدو الفرحة بسيطة في مكانٍ آخر من العالم، لكنها في غزة فعل مقاومة، فأن ينجح طالب في ظلّ الحصار، والدمار، والخوف، هو بحدّ ذاته انتصار على آلة الحرب، وتأكيد على أن التعليم بالنسبة للفلسطيني ليس مجرد وسيلة، بل هو هوية وصمود وبقاء.
إنها غزة، المدينة التي تتقن صناعة المعنى من تحت الركام، والتي علّمت العالم أن الفرح لا يُشترى، بل يُنتزع من بين الألم كما تنتزع الحياة من بين أنقاض البيوت.
ولعل أكثر المشاهد وجعًا تلك التي جمعت شهادات الناجحين إلى جانب صور أصدقائهم الذين رحلوا، كأن الشهادة صارت وثيقة وفاءٍ للأرواح التي غابت، وكأن كل نجاح هو تحية صامتة إلى من كانوا هنا ولم يعودوا.
في غزة، الفرح دائماً ناقص، لكنه لا يموت.
تحت القصف يولد الأمل، ومن تحت الركام تنهض الحروف.
ورغم أن فرحة النجاح هذا العام جاءت باكية، إلا أنها تظلّ علامة على أن غزة ما زالت تتنفس، ما زالت تحلم، ما زالت تقول للعالم: نحن هنا، لا نُقهر، ولا نُمحى، ولا يُطفأ نورنا.