نساء غزة بعد الحرب... "النجاة من الموت لا تعني النجاة من المعاناة"

غزة- زمن FM-  بعد أن خفت أصوات القصف، لم تُطفأ معاناة النساء في قطاع غزة. فالحرب لم تنتهِ بانتهاء القصف، بل بدأت فصولها الأشدّ قسوة في حياة من نجَين من الموت. نساءٌ فقدن كل شيء: البيت، الزوج، الأبناء، الأمان، وحتى القدرة على الحلم بالمستقبل. في غزة ما بعد الحرب، تقف المرأة وسط الركام، بين الدمار والأنقاض، تحاول أن تُرمّم حياةً لم يبقَ منها سوى الذكرى. النجاة من الموت لا تعني النجاة من المعاناة، بل هي بداية فصلٍ جديد من الألم الطويل الذي يعيشه الناجون، وخاصة النساء.

النجاة من الموت ليست نجاة من الألم

منذ الأيام الأولى للحرب، وجدت آلاف النساء أنفسهن بلا مأوى ولا طعام ولا دواء. وفي مخيمات النزوح المؤقتة، تفقد النساء أبسط حقوقهن في الخصوصية والحماية، وسط ظروف معيشية تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة. النساء الحوامل والمرضعات والأرامل والمصابات يواجهن واقعًا قاسيًا لا يرحم، في ظل انعدام الخدمات الأساسية. 

"أشعر أنني فقدت كل شيء، حتى نفسي"، تقول أم يزن، وهي أم لثلاثة أطفال، فقدت زوجها ومنزلها في اليوم نفسه، حين انهار المبنى الذي كانوا يسكنونه في حيّ الزيتون شرق غزة. كانت تحت الأنقاض لساعات وهي تحتضن طفلها الأصغر، لا تدري إن كانت ستموت أو تنجو. خرجت من الركام بملابس ممزقة ووجه مغطى بالغبار، لكنها خرجت بلا بيت ولا سند.

تعيش اليوم في خيمة صغيرة قرب مدرسة تحولت إلى مركز إيواء، تقتسم فيها قطعة خبز مع أطفالها الثلاثة، وتحاول أن تمنحهم شعورًا بالأمان الذي فقدته هي. تقول بصوتٍ مبحوح: "لم أعد أستطيع النوم، أسمع أصوات القصف حتى في صمتي، وأطفالي يستيقظون كل ليلة باكين من الكوابيس... أحيانًا أتظاهر بالقوة أمامهم، لكنني في الداخل منهارة".

قصة أم يزن ليست استثناءً، بل هي مرآة لآلاف النساء اللواتي تحوّلت حياتهن إلى معركة يومية من أجل البقاء، في ظل غياب المأوى، وضياع الأمان، وتلاشي أي أفقٍ واضح للمستقبل.

خدمات منهارة وأجساد مرهقة

في غزة ما بعد الحرب، تواجه النساء واقعًا مريرًا من الحرمان وانهيار الخدمات. المياه النظيفة شبه معدومة، الكهرباء مقطوعة منذ بداية العدوان، والرعاية الصحية تكاد تكون غائبة. المستشفيات إما مدمّرة أو تعمل بقدرة محدودة جدًا، ولا تستقبل سوى الحالات الطارئة. النساء يُتركن لمصيرهن في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات النسائية، بما في ذلك أدوات النظافة الشخصية. حتى الوصول إلى الحمامات في مراكز الإيواء أصبح تحديًا يوميًا يهدد الكرامة والصحة، ويعرّض النساء والفتيات لخطر الأمراض المعدية والتحرش داخل الملاجئ المكتظة.

إحصاءات تكشف عمق الكارثة

بحسب تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، نزحت أكثر من 951 ألف امرأة وفتاة من منازلهن في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب. كما فقدت أكثر من 3,000 امرأة أزواجهن وأصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن، في وقت يعاني فيه أكثر من 50,000 امرأة حامل من غياب الرعاية الصحية الأساسية. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 84% من المرافق الصحية في القطاع تعرضت للتدمير أو الضرر، فيما يعيش معظم السكان دون مياه آمنة أو صرف صحي ملائم. هذه الأرقام لا تختصر الألم، لكنها ترسم ملامح الواقع القاسي الذي تواجهه النساء يوميًا.

الصدمة النفسية... وجع صامت

الصدمات النفسية الناتجة عن الحرب تترك آثارًا طويلة الأمد على النساء والفتيات. الاكتئاب، الأرق، الخوف الدائم، وفقدان الأمل أصبحت مظاهر يومية في حياة الناجيات. كثيرات فقدن أطفالهن أو أزواجهن، وأخريات يعشن في انتظار مصير مجهول. تشير دراسات صادرة عن منظمات الأمم المتحدة إلى ارتفاع حاد في معدلات الاضطرابات النفسية بين النساء في غزة، نتيجة الخسائر المتكررة والنزوح المستمر، في ظل غياب أي دعم نفسي أو اجتماعي منظم.

العنف والتهديدات في ملاجئ النزوح

في ظل التكدس وانعدام الأمن، تواجه النساء والفتيات مخاطر متزايدة من العنف القائم على النوع الاجتماعي. تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) تشير إلى أن نحو 40% من حالات العنف المسجلة تتعلق بالحرمان من الموارد أو الاستغلال داخل الملاجئ. ضعف الإضاءة، غياب الخصوصية، وانهيار النظام الاجتماعي التقليدي جعلت النساء أكثر عرضة للتحرش والعنف الأسري. كما أن المراكز الآمنة محدودة جدًا، وغالبًا لا تستطيع استقبال جميع الحالات المحتاجة إلى الحماية.

نساء بلا عمل ولا دخل

مع انهيار الاقتصاد المحلي ودمار المنشآت التجارية والصناعية، فقدت آلاف النساء وظائفهن ومصادر دخلهن. كثيرات كن يعملن في الزراعة، التعليم، والمشاريع الصغيرة التي دُمرت بالكامل. اليوم، يعتمد معظم السكان على المساعدات الإنسانية التي لا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية. البطالة النسائية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، ما جعل النساء في وضع هشّ يزيد من احتمالية تعرضهن للاستغلال أو الاتجار، خصوصًا في بيئة يسودها الفقر واليأس.

إعادة الإعمار والغياب عن القرار

بينما تُطرح خطط إعادة الإعمار، تبقى النساء غالبًا غائبات عن دوائر اتخاذ القرار. مشاركة المرأة في مراحل إعادة البناء ضرورية لضمان عدالة توزيع الموارد والاستجابة لاحتياجات الفئات الأكثر هشاشة، لكن الواقع يظهر أن أصوات النساء لا تزال مهمشة. المنظمات النسوية تطالب بإشراك المرأة في التخطيط والإدارة، معتبرة أن السلام الحقيقي يبدأ بتمكين النساء، لا بتهميشهن مرة أخرى.

مآسي ما بعد الحرب... حياة على الحافة

وراء كل خيمة قصة امرأة تحاول أن تصمد في وجه الانكسار. أرامل يربين أطفالهن في ظل غياب الأمن والدخل، فتيات يواجهن الحرمان من التعليم بسبب النزوح، ونساء فقدن أبناءهن وأزواجهن ويحاولن الاستمرار فقط من أجل من تبقّى. في غزة اليوم، المرأة ليست مجرد ضحية للحرب، بل شاهدة على انهيار العالم من حولها، ومصدر للحياة رغم كل هذا الخراب.

كرامة لا تُهزم

رغم الوجع، تظل نساء غزة عنوانًا للثبات والكرامة. كل امرأة تنهض من بين الركام لتطعم طفلًا أو تُضمّد جرحًا أو تُشعل نارًا في برد الخيام هي حكاية مقاومة صامتة. هنا، لا تُقاس البطولة بالشعارات، بل بامرأةٍ تصنع الحياة من العدم، وتقاوم بصمتٍ لا يُصفّق له أحد. فالحرب قد تُطفئ المدن، لكنها لا تستطيع أن تُطفئ إرادة النساء اللواتي يصنعن الحياة من تحت الرماد.

المصدر: نساء FM