لويس غيبسون.. هكذا تحولت ناجية من اعتداء وحشي إلى أنجح رسامة شرعية في العالم

تكساس - زمن FM- رقد تغير لحظة صادمة حياة إنسان بالكامل، فتقوده إما إلى الانكسار أو إلى إعادة اكتشاف ذاته وقدراته على نحو لم يكن يتخيله. كثيرون ينهارون أمام ثقل الألم، لكن قلة فقط يختارون تحويل الجرح إلى أداة لإنقاذ الآخرين.

هذا بالضبط ما فعلته الأميركية لويس غيبسون، التي حوّلت نجاتها من اعتداء وحشي وهي في ريعان شبابها إلى بداية رحلة مهنية جعلت منها "أكثر فنانة شرعية نجاحا في العالم"، إذ ساعدت رسوماتها الشرطة في إلقاء القبض على مئات المجرمين وإعادة الطمأنينة لضحايا لم يجدوا سوى ملامح على الورق لتحقيق العدالة.

Police, Crime scene, Blue light image. Free for use.

لفتت الأميركية لويس غيبسون إلى أن أجمل ما قدمته هو أنها منحت الضحايا بدورهم فرصة للشفاء (بيكسابي)

طفولة هادئة.. ولكن

ولدت لويس غيبسون في ولاية تكساس الأميركية أوائل خمسينيات القرن الماضي. حيث أظهرت موهبة مبكرة في الرسم، وواصلت دراستها حتى نالت شهادة في الفنون الجميلة من جامعة تكساس في أوستن.

لم يكن في حسبانها أن يتقاطع فنها مع عالم الجريمة، بل كانت أحلامها آنذاك تدور حول الرقص والتمثيل في لوس أنجلوس، حيث عاشت فترة في إستوديوهات السينما كعارضة وممثلة مبتدئة.

هذه الحياة الهادئة لم تدم طويلا، ففي عامها الـ21، تعرضت غيبسون لهجوم مروع على يد قاتل متسلسل اقتحم شقتها في لوس أنجلوس. حيث وصفت التجربة لاحقا بأنها "اغتصاب تعذيبي" شعرت فيها أنها كانت على وشك الموت، فقد كان المعتدي يخنقها حتى تفقد الوعي، ويعيد الكرة ما أن تستعيد وعيها مجددا فقط من أجل مشاهدتها تعاني.

لم تبلغ الشرطة حينها خوفا من الوصمة المجتمعية أو تحميلها جزءا من المسؤولية، ومع ذلك، ألهمها هذا الحادث لتغيير مسار حياتها: فقد غادرت لوس أنجلوس إلى تكساس، والتحقت بجامعة تكساس للفنون الجميلة، ثم مارست رسم الوجوه كصور تذكارية للسياح، مكتسبة مهارة عالية في الرسم. وخرجت من التجربة بقرار لا رجعة فيه، وهو أن تُكرس حياتها لمواجهة المجرمين ومساعدة ضحاياهم. وحول ذلك تقول: "كنت في كل مرة أرسم فيها وجها لمجرم، أشعر أنني أنتقم ممن حاول إيذائي والقضاء عليّ".

من فنانة شوارع إلى رسامة شرعية

بعدما عادت إلى تكساس، وبدأت ترسم وجوه السياح في أماكن عامة لكسب قوت يومها، كانت هذه التجربة البسيطة نقطة تحول في مهارتها في التقاط أدق الملامح بسرعة. ومع مرور الوقت، تبلورت لديها فكرة استخدام مهارتها في خدمة العدالة.

تقدمت إلى شرطة هيوستن للعمل كرسامة شرعية، لكن طلبها قوبل بالرفض أكثر من مرة. غير أنها لم تيأس، وأصرت على المحاولة لمدة 7 سنوات كاملة، إلى أن التحقت أخيرا بشكل رسمي بفريق التحقيقات عام 1989، بعد أن أثبتت في أكثر من قضية أن بوسع رسوماتها مساعدة الشرطة في القبض على المشتبه بهم فعلا.

وما ميّز غيبسون عن غيرها لم يكن فقط براعتها الفنية، بل قدرتها على التواصل مع الضحايا. فقد كانت تعرف من تجربتها أن العقل البشري في لحظات الصدمة قد يمحو تفاصيل كثيرة، لذلك كانت تبدأ بجلسات مطولة مع الضحية، تستمع فيها أكثر مما ترسم.

كانت تسألهم عن تعابير المجرم، عن نظراته، عن أي تفصيلة صغيرة يمكن أن تُعيد للذاكرة صورة الوجه الذي آذى هذه الضحية. وبمساعدة أرشيف من صور العيون والأنوف والأفواه، تُركّب الملامح تدريجيا حتى يشعر الضحية فجأة: "هذا هو!".

Police, Blue light, Mission image. Free for use

تقدمت لويس غيبسون إلى شرطة هيوستن للعمل كرسامة شرعية لكن طلبها قوبل بالرفض أكثر من مرة (بيكسابي)

نجاح عالمي وأرقام قياسية

منذ أول رسم "بسيط" قاد إلى توقيف قاتل في الثمانينيات، لم تتوقف غيبسون عن تحقيق النجاحات، فقد ساعدت أكثر من ألف و300 ضحية في التعرف على مهاجميهم، وأسهمت رسوماتها في إلقاء القبض على مجرمين خطيرين، بدءا من قتلة ومرتكبي اعتداءات، وصولا إلى سارقين فارين.

هذا النجاح الاستثنائي دفع بموسوعة "غينيس" للأرقام القياسية إلى تسجيل اسم غيبسون كأكثر رسامة شرعية نجاحا في العالم، بنسبة نجاح وصلت إلى 30%، وهي نسبة عالية جدا مقارنة بالمعدل العالمي في هذا المجال.

لم تكتفِ غيبسون بمسيرتها العملية عند هذا الحد، بل وضعت خبراتها في كتب مرجعية حملت اسم "وجوه الشر" (Faces of Evil)، و"فن الرسم الشرعي وأساسياته" (Forensic Art Essentials)، اللذين يُعتبران إلى اليوم من أهم المراجع لتدريب الفنانين الشرعيين في مجال رسم وتحديد هويات المجرمين، وقد تم صناعة الأفلام الوثائقية المستقاة منهما وحققت نجاحات ومشاهدات واسعة.

الفن كعلاج شخصي

ومن بين المقابلات الصحفية والإعلامية العديدة التي حظيت بها الرسامة الجنائية، تقول غيبسون إنها لم تعتبر عملها قط مجرد مهنة، بل كان بمنزلة علاج نفسي متواصل لكي تتعافى من تجربتها المؤلمة.

مضيفة أن كل وجه مجرم كانت ترسمه كان بالنسبة لها "خطوة إضافية للتغلب على ذكريات الاعتداء الذي كاد أن يغيّر حياتها للأسوأ ويقضي عليها".

ولفتت إلى أن الأجمل من ذلك كان أنها منحت الضحايا بدورهم فرصة للشفاء، بعدما شعروا أن رسوماتها مكنتهم من التغلب على مخاوفهم وتحقيق العدالة.

المصدر: الجزيرة + مواقع إلكترونية