غزة - فقدانهن لأجزاء من أجسادهن يذكرهن بمن فقدن من أحبائهن، سنة وثلاثة أشهر كانت كافية لتسرق منهن البهجة، الحب، الأمل، ثلاث نساء فلسطينيات فقدن عائلاتهن.
ها هو أمامها، يركض بقدم سليمة وأخرى معوجة، يحاول الدوران حول سريرها، تحاول رفع جذعها قليلاً فتواجه صعوبة في سحب ساقها الميتة، والساق الأخرى لا تزال تؤلمها كألم رؤيتها لساق ابنها التي لم تصبح طبيعية بعد أن خضع لعملية زراعة بلاتين.
منذ أكثر من سبعة أشهر تستلقي ريهام الشامي على سرير المرض داخل مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، في الثاني والعشرين من شهر مايو الماضي فقدت ريهام اثر قصف إسرائيلي غادر زوجها وأطفالها الخمسة، وكل ما تبقى لها قدم مهشمة وابنها جعفر الذي أصبح طفلها الوحيد بعد أن كانت أماً لستة أطفال.
كانت الساعة الثانية عشر بعد منتصف ليل الخميس الثالث والعشرين من مايو الماضي حين وصلت ريهام وصغيرها مستشفى شهداء الأقصى، كانت قدم جعفر اليمنى مصابة بكسور شديدة مما دفع الأطباء لاتخاذ قرار بترها، حاولت منعهم من ذلك، تقول ريهام: "سيطر علي البكاء، شعرت بأن روحي خرجت من جسدي، لا يهمني فقداني لساقي لكن ابني الذي أصبح وحيدي الآن يا الله دعه يسير، يركض، لا تحرمه طفولته يا الله، حاولت عائلة زوجي اقناع الأطباء حين شاهدوا أصابع قدمه تتحرك، وفعلا قام الأطباء بوضع البلاتين له، ثم أدخلوني غرفة العمليات الساعة الواحدة فجرًا، استغرقت العملية وقتًا طويلا يزيد عن 4 ساعات، والحمد لله لم تبتر قدمي الثانية إلا أن العظام مفتتة، وضعوا لي بلاتين حتى وصل لأعلى الفخذ، في هذه اللحظة لم يكن معي أحد من أهلي، وفي الصباح حين جاءوا للمستشفى، أخبروني أن زوجي وبناتي ومعاذ توأم جعفر جميعهم استشهدوا، لم يبقى لي احد سوى جعفر، والذي يعاني أوجاعا صعبة، فقد اكتشفوا بعد فترة أن البلاتين في قدمه وضع بشكل خاطئ، ويحتاج لعملية جديدة لإعادته بشكل صحيح، والامكانيات لذلك غير متوفرة في مستشفى شهداء الأقصى، وهو بحاجة ماسة للعلاج في الخارج لإنقاذ قدمه، حين أنظر إليه وهو يمشي، أرى تعرجًا غير طبيعي، إضافة إلى انه يعاني بشدة حين أحاول قص أظافر قدمه، يبدأ بالصراخ والبكاء بشكل هستيري".
وتتحدث ريهام عن ذكريات عائلتها الجميلة حين كانت تسير بهم للسوق لابتياع حاجياتهم على حسب مقدرتهم كعائلة متوسطة الحال في غزة، "كنت أحب اصطحابهم للسوق قبيل الأعياد، ومع افتتاح السنة الدراسية الجديدة، كان توأمي الصغير معاذ وجعفر يحبون الركض أمامنا أنا وباقي الأطفال، دوما ما كانت جنى ابنتي الكبرى تساعدني في اختيار ملابسهم على ذوقها، تركنا بيتنا في اليوم الأول لاندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، لكن هم من لم يتركونا، قصفوا منزل عائلة زوجي الذي نزحنا إليه.
"حممت بناتي للمرة الأخيرة، سرحت لهن شعورهن، وجلسن يشاهدن أفلام الكرتون على الهاتف المحمول كان ابني جعفر جالساً معهم وكذلك معاذ، وكنت في غرفتي أسرح شعري، حين سقط الصاروخ أمام عيني على زوجي وهو يقف بجوار الصالون أخر المنزل حيث كان الأولاد جميعهم، ومن ثم فقدت الوعي لدقائق ممكن أو حتى ثواني، فحين أفقت من الغيبوبة على صوت بكاء صغير، كانت الحجارة فوقي وكان أحدهم يتحرك في حضني وينادي ماما، حاولت رفع الحجارة، من هذا هل هذا معاذ لا إنه جعفر هذه يده الصغيرة أعرفه منها، وصل المنقذون طالبتهم بإنقاذ طفلي أولاً، ثم سحبوني من تحت الحجارة وألقوا بساقي في حضني، كانت قطعة جلد صغيرة هي ما تصلها بباقي جسدي، أصبحت مبتورة الآن كروحي، وساقي الأخرى مكسورة وعظامها مفتتة".
مخاوف عظيمة لا تزال تسيطر عليها وهي التي تعيش فقداناً كاملاً لعائلتها، زوجها وأطفالها، وساقها، حرمتها دفء العائلة وحقها في العيش بأمان، وتعيش ريهام هاجس فقدان ساقها الثانية بعد أن أخبرها الأطباء بأنها لا تزال بحاجة للكثير من العمليات الجراحية لتصبح قادرة على السير عليها بشكل شبه طبيعي.
لا تزال ريهام وابنها يعيشان داخل مستشفى شهداء الأقصى في انتظار تحويلها خارج قطاع غزة لتلقي العلاج اللازم، فهي بحاجة لتغيير مفصل وزراعة عظم وتركيب بلاتين داخلي وهي عملية معقدة لا يستطيعون إجراءها حالياً.
أصيبت ريهام بقرحة أسفل ظهرها بسبب الاستلقاء أغلب الوقت، ومحدودية الحركة ورغم الحالة الصعبة التي تعاني منها كونها لا تستطيع الحركة إلا أنها تحاول الترفيه عن صغيرها الذي مل ممرات المستشفى وغرفه وأسرته.
تقول ريهام، "أحيانا يقوم جعفر بتكسير الأشياء من حوله، انه طفل صغير يشعر بالملل والوحدة، فكيف أعاتبه أو أقسو عليه بعد أن فقد كل اخوته وشقيقه توأم روحه، وأنا مقعدة بلا حول ولا قوة لا أستطيع حتى المشي بجانبه، كل ما أتمناه أن أقف يومًا ما على قدمي، وأن يصلحوا قدم ابني، كي نذهب سويا إلى البحر".
كانت استراحة مارينا التي تطل على البحر الأبيض المتوسط شاهدة على جلساتها هي وصديقاتها، كانت عيناها تتابعان الأمواج وهي تتكسر على الصخور أسفل نوافذ الاستراحة، كان الخميس الخامس من أكتوبر قبل عامين آخر يوم زارت فيه هيا البحر مع والدتها منال وأختها الصغيرة هلا، ثم لم ترَ عيناها بعد ذلك سوى الرعب. تقول هيا: "في طريقنا للنزوح من مدينة غزة إلى جنوب الوادي، بعد أقل من شهرين على بدء الحرب الإسرائيلية علينا، كان الشارع مليئًا بجثث الشهداء المتفحمة والمقطعة، والسيارات المحترقة، والأراضي المجرفة والمحروقة على يمين ويسار الطريق، كان رعبًا لا يوصف، والآن أتمنى لو أنني استطعت الاحتفاظ بوالدتي فقط بدلًا من عيني".
دخلت هيا إلى المطبخ في منزل صغير مستأجر شمال شرق مدينة رفح الواقعة جنوب قطاع غزة. كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرًا حين بدأت هيا وزوجة خالها على مهل بإعداد سفرة طعام السحور في شهر رمضان الذي يصوم فيه المسلمون. كان يوم الثلاثاء في منتصف شهر رمضان، في السابع والعشرين من مارس الماضي، لم يفرغوا بعد من تحضير السفرة، عينا هيا كانت تنتقل بين يديها إلى والدتها وأختها الصغرى اللتين كانتا تجلسان في صالون المنزل في الجهة المقابلة للمطبخ، كان المشهد الأخير الذي رأت فيه هيا أمها قبل أن تموت وتموت عينها اليمنى معها.
تصف هيا النشار، وهي في الثانية والعشرين من عمرها، الحادثة: "كان صوت الصاروخ مرعبًا وقويًا، ناديت على أمي لكن صوت الإسعاف هو كل ما سمعته، كوننا نعيش بجوار جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في رفح. لم تكتمل الدقيقة حتى كان المسعفون ينادون على من في المنزل. كنت تحت الردم، الكثير من الشهداء تم إجلاؤهم من العمارة، لم أكن أستطيع رؤية شيء، كان الدم والغبار والرمال والحجارة الصغيرة تغطي وجهي وعيوني. سمعت أنهم يقومون بنقلنا إلى مستشفى أبو يوسف النجار وقاموا بعمل الإسعافات الأولية اللازمة، ومن ثم نقلوا المصابين بإصابات خطيرة إلى المستشفى الأوروبي".
نقلت هيا وأخوها حسام وزوجة خالها وابنها إلى المستشفى الأوروبي الواقع بين مدينتي رفح وخانيونس جنوب قطاع غزة. كان أخوها مصابًا في رأسه وأحد أصابع قدمه، ولم يخبرهم الأطباء أن أمهم وأختهم الصغيرة قد استشهدتا.
تتابع هيا بهدوء: "أدخلوني غرفة العمليات، بعد أن قمت بالتوقيع على إقرار بتفريغ العين. كانت إحدى شظايا الصاروخ الإسرائيلي الغادر مستقرة في عيني اليمنى بعد أن دمرت ما فيها، لأن الشظية دمرت عيني بشكل كامل. أخبروني باستشهاد أمي وأختي ودخلت في غيبوبة البنج في غرفة العمليات. استغرقت العملية 4 ساعات، ثم عدت للواقع كأنني تلقيت الخبر لحظتها. كان الألم في روحي لفقدان أمي هو الأكبر من ألم عيني".
قبل يوم واحد فقط من خسارة هيا لوالدتها، أختها، وعينها، فقدت منى اثنين من أطفالها وقدميها الاثنتين. وبعد ذلك التاريخ، أصبح دمعها عصيًا جدًا على العين، لم تعد الدموع تسقط من العينين، بل من القلب.
انتقلت منى المدهون وأطفالها الأربعة من منزلهم الصغير في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، إلى خيمة في منطقة مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة. تحملت منى وزوجها وأطفالها الكثير لتستمر في مد أطفالها بالأمل والشغف للحياة التي شعرت بأنها فقدته يوم تركت جباليا.
رغم كل الخسائر المادية والنفسية والروحية عاشت وتعايشت منى مع حياة النزوح في منطقة المواصي المصنفة كمنطقة آمنة، إلى أن جاء السادس والعشرين من مارس الماضي.
تقول منى: "تعرضت خيمة مجاورة لخيمتنا للقصف بشكل مفاجئ وأصبت أنا وأطفالي الأربعة. كانت الساعة العاشرة صباحًا، امتلأ جسدي بالشظايا، فقدت اثنين من أولادي: نور الدين (12 عامًا)، وعمر (10 أعوام)، بينما كانت إصابة ابني محمد ذا الثمانية أعوام إصابة بليغة في الرأس واستشهد بعد تسعة أيام من الصراع مع الموت. ابني الأصغر، كنان، الذي لم يكن قد بلغ الخامسة بعد، تعرض لإصابة بليغة في بطنه مما تسبب في تقطع أمعائه، ولا يزال يعاني من مضاعفات إصابته حتى اليوم. لا ينام ليلًا، ولا يستطيع تناول الطعام كالبشر".
تغلغلت الشظايا في جسد منى، واستأصل الأطباء أجزاء من أمعائها، وأصيب حبلها الشوكي إصابة قاتلة مما سبب لها شللًا نصفيًا دائمًا.
تصف منى رحلتها العلاجية القاسية: "خضعت لعملية جراحية في المستشفى الأمريكي، حيث قضيت شهرًا ونصف في العلاج، ولكنني خرجت وأنا لا أزال أعاني من الشلل التام، ثم تم نقلي إلى مدرسة خديجة في دير البلح، وكان قد تم تحويلها لنقطة طبية. كنت أتلقى العلاج بداخلها ومكثت فيها ما يقارب الثلاثة أسابيع. يعاني جسدي من التهابات مزمنة تؤثر بشكل كبير على الكلى وتسبب لي هبوطًا في ضغط الدم، كما أنني أعاني من التهابات خطيرة بسبب القسطرة المركبة، وفي كل مرة تتفاقم فيها حالتي أضطر للبقاء في المستشفى لعدة أيام، ما يجعلني أعاني بسبب ترك أطفالي وحدهم دون أم تحتويهم وتخفف عنهم آلامهم وأوجاعهم. آه، تذكرت، لم يتبق لي سوى ولد واحد، كنان، لكنه يعيش الآن ووالده عند عائلة زوجي، لم أعد أستطيع الاهتمام به".
تشعر منى بالضياع، تكاد تفقد عقلها. تعيش حاليًا مع أهلها في خيمتهم بمواصي خانيونس، بينما يقيم زوجها وطفلها كنان في خيمة منفصلة، بعيدة، كونها لا تستطيع العناية بهما. بنبرة حائرة وعيناها الضائعتان، تقول منى: "أعيش داخل كابوس من يوم تركت بيتي في جباليا. الحرب أخذت مني أطفالي وأقدامي. لم أصحُ بعد من الكابوس الذي أعيشه، ولا أعتقد أنني أستطيع الاستيقاظ منه. في كل يوم تشرق فيه الشمس أتمنى لو أنني لم أستيقظ، لألتقي بأحبابي وأطفالي الثلاثة وأسير معهم كما كنا دائمًا، بمرح وفرح".
المصدر: الحياة الجديدة -إيمان جمعة- زمن FM