يواجه المقدسيون وحدهم منذ سنوات طويلة، الإجراءات الصهيونية المتصاعدة بحقّهم، والتي تهدف في جوهرها إلى اقتلاعهم من القدس، عبر التضييق ومحاولات التهجير، وحتى التحفيز والإغراءات المالية والاقتصادية، إلى جانب هذه الإجراءات، هناك معركة مستمرة منذ احتلال كامل القدس عام 1967، وهي المعركة على الوعي، التي تقع في قلبها المعركة على العملية التعليمية والمناهج التربوية.
مع بداية العام الدراسي الجديد 2023 -2024، تعود للواجهة محاولات العدو الصهيوني، منذ احتلاله للقدس، تثبيت “أسرلة” التعليم، ومسخ المناهج التعليمية، لتصبح مدخلاً لتدجين الأجيال الفلسطينية الجديدة، وتشويه عقلها عبر زرع “إسرائيل” في عقولها ككيان طبيعي موجود وليس احتلالا، واستبدال ثقافة الهزيمة ورفع كل ما يعزز ارتباط هذه الأجيال ب فلسطين وقيم المقاومة والصمود، حيث فرضت هذا العام اجراءات صارمة و تهويدية على مدارس القدس بشكل كامل، حيث منعت افتتاح اي مدرسة جديدة لا توافق الشروط الاسرائيلية لتدريس المنهج الإسرائيلي او الفلسطيني المزور.
وقالت ديما السمان، مدير عام وحدة شؤون القدس في وزارة التربية والتعليم، في حديث مع "نساء إف إم" إن هذه السياسات الصهيونية ليست بجديدة، إلا أنّها بحالة تصاعد وفق خطط مدروسة يضعها الاحتلال وتشمل عدة مستويات، فهي من جانب تُعزّز المدارس الخاضعة لسيطرة بلدية الاحتلال في القدس وتوسعها، وتحاصر المدارس الفلسطينية ومدارس وكالة الغوث، ومن جانب آخر تقدّم تحفيزات ومغريات للمدارس الخاصة للانحراف والانجراف خلف المخططات الصهيونية في استدخال المناهج المعدلة إلى الصفوف الدراسية الفلسطينية، وبطبيعة الحال لم تخلُ سياسات الاحتلال من عقيدته الإجرامية عبر إجراءات التهديد والوعيد والملاحقة للرافضين الخضوع لهذه السياسة المشوهة والخطيرة.
المقدسيون اتخذوا خطوة نوعية جديدة في إطار المواجهة والتصدي للمحاولات المستميتة لكي الوعي، والتلاعب في المناهج، عبر الإضراب الشامل في مدارس القدس رفضاً لمحاولات فرض المنهاج الصهيوني المتلاعب به، هذه الخطوة تُعد الخطوة الأكبر بعد سلسلة كبيرة من الفعاليات المتفرقة على مدار السنوات السابقة، إلا انها على أهميتها تحتاج إلى المراكمة عليها ضمن سياسة وطنية موحدة، يتكامل فيها الفعل الرسمي والفصائلي والشعبي لحماية العملية التعليمية في القدس من مخاطر “الأسرلة”.
خلفيات الأزمة
منذ احتلال القدس عام 1967، قامت سلطات العدو بفرض ”عقيدة أرض الميعاد التوراتية”، لتحقيق أهدافها الإحلالية بهدف خلق هوية سياسية جديدة تخدم تعزيز تواجده، وإبعاد القدس عن الهوية العربية في إطار سياسة “الأسرلة” التي شملت استهداف الجهاز التعليمي.
اتّخذ الاحتلال قراراً بإلغاء قانون التعليم الأردني وإغلاق مكتب التعليم الأردني في القدس، وفرض سيطرته على المدارس الحكومية وفرض المنهاج الصهيوني عليها، إلا أنّ هذه المحاولة جوبهت برفض مقدسي كبير، حيث رفض أهالي القدس إرسال أبنائهم إلى المدارس، وأرسلوهم إلى المدارس الخاصة التي استمرت في تدريس المنهاج الأردني.
لم يتوقف الاحتلال بالطبع عند هذه المحاولة، بل عمل على إيجاد صيغ بديلة عبر التدرّج في عمليات التحريف والتشويه والشطب لعبارات ومقولات وأشعار وقصائد وفقرات وصفحات في كتب المنهاج الأردني وتقديم نسخة مدمجة من المنهاج الأردني مع منهاج الاحتلال، وهو منهاج مشوّه سعى الاحتلال لتمرير أفكاره وثقافته عبره، إلا أنّها محاولة قوبلت بالرفض أيضا، وصولاً للمنهاج الذي جرى تمريره في العام 1973 وهو المنهاج الأردني المنقّح الذي تمّ إزالة اسم فلسطين منه، كما تمّ استخدام المسمّيات العبرية للمدن والقرى الفلسطينية المحتلة، بالإضافة لفرض تعليم اللغة العبرية مادة “دولة إسرائيل” في المنهج.
مع عقد اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية التي شملت تأسيس وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، تولّت الوزارة مسؤولية التعليم في القدس في مدارس الأوقاف فقط، واستمر تدريس المنهاج الأردني في مدارس الأوقاف والمدارس الخاصة الفلسطينية ومدارس وكالة الغوث في شرقي القدس، إلا أنّ الاحتلال اشترط أيضاً حذف شعار السلطة الفلسطينية عن الكتب، واستمرار تعليم اللغة العبرية وتاريخ الكيان، في ما بقي الطلبة المقدسيون يدرسون المنهاج الأردني حتى أتمّت السلطة الوطنية الفلسطينية إعداد المنهاج الفلسطيني الأول بعد اتفاق أوسلو.
بدأ تطبيق كتب المنهاج الفلسطيني في المدارس، بما فيها مدارس القدس (تشمل مدارس بلدية الاحتلال)، تدريجياً من الصف الأول في العام الدراسي 2001/2000، حتى اكتمل تطبيقه للصف الثاني عشر الثانوي (التوجيهي) في العام الدراسي 2005/2004.
منذ تعليم المنهاج الفلسطيني الجديد، دأبت سلطات الاحتلال في التضييق والمتابعة اللصيقة وإخضاع هذا المنهج للمراجعة عبر لجان ومراكز عدة، بما فيها انعقاد “لجنة التربية والثقافة والرياضة” في الكنيست عدة مرات لبحث المنهاج الفلسطيني الجديد، ولجأت مديرية التعليم العربي إلى خدمات شركة صهيونية خاصة، وأوْلتها مهمة الرقابة على كتب المنهاج الفلسطيني، ومن ثم حذف كل ما يُعتبر “تحريضا” على الاحتلال، أو دالّاً على الهوية الفلسطينية السياسية، ومن ثم طباعة الكتب من جديد في نسخة محرّفة معدّلة، وتوزيعها على المدارس التابعة لها.
كان من بين المحتوى المحذوف في صيغة المناهج المعدّلة (المحرّفة): صور للعلم الفلسطيني ولقُبّة الصخرة، ومعلومات عن حب الوطن، وعن نشأة الحركة الصهيونية، وعن الانتفاضات الشعبية الفلسطينية المتلاحقة، بالإضافة إلى قصائد عن الشهادة وحقّ العودة.
تصاعدت عمليات الاستهداف للمنهاج الفلسطيني الجديد ومحاولة أسرلته في القدس المحتلة منذ عهد وزير التعليم العالي الصهيوني الأسبق المتطرّف (جدعون ساغر) ومن بعده وزير التعليم السابق المتطرّف (نفتالي بينيت) عام 2009، وقامت استراتيجيتهما على إحلال المنهاج الإسرائيلي بالكامل محل المنهاج الفلسطيني، وبُنيت الخطوط العامة لهذه الاستراتيجيات على قضم التعليم وفق المناهج الفلسطينية بشكل متدرج، من خلال بناء مدارس تخضع لسيطرة بلدية الاحتلال وتدريس المنهاج الإسرائيلي من رياض الأطفال وحتى الثانوية العامة.
عمد الاحتلال عام 2009 إلى إخراج مصطلح النكبة من المنهاج للطلبة الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني المحتل، ومنذ عام 2011 سخّر الاحتلال كافة أجهزته المدنية والأمنية لوضع مخططات أسرلة المنهاج الفلسطيني في مدينة القدس.
في السنوات الأخيرة وضمن الخطة الحكومية الخماسية 2018- 2023، رصدت حكومة الاحتلال من كامل الميزانية البالغة ملياري شيكل لدمج سكان القدس العرب في المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، (875) مليون شيكل لأسرلة العملية التعليمية.